كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَنْكَسِرُوا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَلَمْ يَنْتَصِرُوا بَلْ نَالَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ وَنَالُوا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ حُرِمُوا النَّصْرَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَكَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَهْزِمُوا الْمُشْرِكِينَ وَيَرُدُّوهُمْ مَدْحُورِينَ- وَسَيَأْتِي فِي الْآيَاتِ بَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْحَكَمُ فِيمَا كَانَ- وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نُصِرَ رَسُولُ اللهِ فِي مَوْطِنٍ نَصْرَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ كِتَابُ اللهِ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [3: 152] وَسَيَأْتِي.
وَالْتَمَسُوا الْقَتْلَى فَرَأَوْا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ مَثَّلُوا بِهِمْ، وَكَانَ التَّمْثِيلُ بِحَمْزَةَ رضي الله عنه شَرَّ تَمْثِيلٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ لِيُمَثِّلَنَّ بِهِمْ عِنْدَمَا يُظْفِرُهُ اللهُ بِهِمْ، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى فَلَمْ يَفْعَلْهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَخَرَجَ نِسَاءٌ مِنَ الْمَدِينَةِ لِمُسَاعَدَةِ الْجَرْحَى، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ- عَلَيْهَا السَّلَامُ- هِيَ الَّتِي دَاوَتْ جُرْحَ وَالِدِهَا- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ مَصَّ الدَّمَ مِنْهُ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَتَّى أَنْقَاهُ تَوَلَّتْهُ هِيَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أنه سُئِلَ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ وَبِمَ دُووِيَ، كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَغْسِلُهُ وَعَلِيٌّ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ (التُّرْسِ) فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ.
وَلَمَّا انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ رَاجِعِينَ ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَعَلِيٍّ: اخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ؟ فَإِنْ هُمْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الْإِبِلَ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانُوا رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ لَأُنَاجِزَنَّهُمْ فِيهَا فَرَآهُمْ عَلِيٌّ قَدْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الْإِبِلَ وَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ. وَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ أَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَادَاهُمْ مَوْعِدَكُمُ الْمَوْسِمُ بِبَدْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا».
وَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي الطَّرِيقِ تَلَاوَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا أَصَبْتُمْ شَوْكَتَهُمْ وَحَدَّهُمْ وَتَرَكْتُمُوهُمْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ فَارْجِعُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَى النَّاسَ وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْمَسِيرِ إِلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ وَقَالَ: لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ فَاسْتَجَابَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْجُرْحِ الشَّدِيدِ وَالْخَوْفِ وَقَالُوا: سَمْعًا وَطَاعَةً وَذَلِكَ مِنْ خَوَارِقِ قُوَّةِ الإيمان وَآيَاتِهِ الْكُبْرَى، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَجِيبِينَ كَانَ قَدْ بَرَّحَ بِهِمُ التَّعَبُ وَالْجِرَاحُ تَبْرِيحًا.
فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَأَقْبَلَ مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِأَبِي سُفْيَانَ فَيُخَذِّلُهُ، فَلَحِقَهُ بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ تَحَرَّقُوا عَلَيْكُمْ وَخَرَجُوا فِي جَمْعٍ لَمْ يَخْرُجُوا فِي مِثْلِهِ وَقَدْ نَدِمَ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى يَطْلُعَ أَوَّلُ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَكَمَةِ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي لَكَ نَاصِحٌ.
فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِلَى مَكَّةَ. وَلَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تُبَلِّغَ مُحَمَّدًا رِسَالَةً وَأُوَقِّرُ لَكَ رَاحِلَتَكَ زَبِيبًا إِذَا أَتَيْتَ إِلَى مَكَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَبْلِغْ مُحَمَّدًا أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ لِنَسْتَأْصِلَهُ وَنَسْتَأْصِلَ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُ قَالُوا: «حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».
وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَدْفِنُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَرُبَّمَا كَانَ يُلَفُّونَ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ لِقِلَّةِ الثِّيَابِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ- كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ- وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أنه صَلَّى عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرُّجُوعَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَكِبَ فَرَسَهُ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصْطَفُّوا خَلْفَهُ وَعَامَّتُهُمْ جَرْحَى، وَاصْطَفَّ خَلْفَهُمُ النِّسَاءُ وَهُنَّ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً كُنَّ بِأَصْلِ أُحُدٍ، فَقَالَ: اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، فَاسْتَوَوْا فَقَالَ: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَمِنْ شَرِّ مَا مَنَعْتَ مِنَّا، اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإيمان وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ- إِلَهَ الْحَقِّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَلَكِنْ قَالَ الذَّهَبِيُّ: أنه عَلَى نَظَافَةِ إِسْنَادِهِ مُنْكَرٌ، وَأَخْشَى أن يكون مَوْضُوعًا. وَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ الْمُنَافِقُونَ فِيمَنْ قُتِلَ: لَوْ كَانُوا أَطَاعُونَا وَلَمْ يَخْرُجُوا لَمَا قُتِلُوا.
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَلْنَشْرَعْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، وَنَقُولُ أَوَّلًا: إِنَّ وَجْهَ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أنه تعالى نَهَاهُمْ فِي تِلْكَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعَدَاوَةِ لَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِبَعْضِهِمْ إِيَّاهُمْ وَإِنْ خَادَعَهُمْ أَفْرَادٌ مِنْهُمْ بِدَعْوَى الإيمان، وَأَنَّهُمْ إِنْ يَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لَا يَضُرُّهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، وَبَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ ذَكَّرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ كَيْدِ الْمُنَافِقِينَ إِذْ قَالُوا مَا قَالُوا أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِذْ خَرَجُوا ثُمَّ انْشَقُّوا وَرَجَعُوا لِيَخْذُلُوا الْمُؤْمِنِينَ وَيُوقِعُوا الْفَشَلَ فِيهِمْ، وَمِنْ كَيْدِ الْمُشْرِكِينَ وَتَأَلُبِّهِمُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ دَافِعٍ إِلَّا الصَّبْرُ حَتَّى عَنِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي طَمِعَ فِيهَا الرُّمَاةُ فَتَرَكُوا مَوْقِعَهُمْ وَإِلَّا التَّقْوَى، وَمِنْهَا- بَلْ أَهَمُّهَا- طَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّمَاةَ، وَذَكَّرَهُمْ أيضا بِوَقْعَةِ بَدْرٍ إِذْ نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ بِصَبْرِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ. قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} أَيْ وَاذْكُرْ بَعْدَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ إِذْ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِكَ غَدْوَةً، وَذَلِكَ سَحَرَ يَوْمِ السَّبْتِ سَابِعَ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ لِلْهِجْرَةِ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ أَيْ تُوَطِّنُهُمْ وَتُنْزِلُهُمْ أَمَاكِنَ وَمَوَاضِعَ فِي الشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ لِأَجْلِ الْقِتَالِ فِيهَا، فَمِنْهَا مَوْضِعٌ لِلرُّمَاةِ وَمَوْضِعٌ لِلْفُرْسَانِ وَمَوْضِعٌ لِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَكَانُ الْقُعُودِ كَالْمَجْلِسِ لِمَكَانِ الْجُلُوسِ وَالْمَقَامِ لِمَكَانِ الْقِيَامِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الْمَكَانِ تَوَسُّعًا. وَقِيلَ: تَبْوِئَةُ الْمَقَاعِدِ تَسْوِيَتُهَا وَتَهْيِئَتُهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمْ يَخْفَ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا قِيلَ فِي مُشَاوَرَتِكَ لِمَنْ مَعَكَ فِي أَمْرِ الْخُرُوجِ إِلَى لِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ أَوِ انْتِظَارِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَهُوَ قَدْ سَمِعَ أَقْوَالَ الْمُشِيرِينَ وَعَلِمَ نِيَّةَ كُلِّ قَائِلٍ، وَأَنَّ مِنْهُمُ الْمُخْلِصَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي رَأْيِهِ كَالْقَائِلِينَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ غَيْرُ الْمُخْلِصِ فِي قَوْلِهِ- وَإِنْ كَانَ صَوَابًا- كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَيَصِحُّ أن يكون الْوَصْفَانِ الْكَرِيمَانِ مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ- كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ، وَالْمُرَادَ بِهِ أَصْحَابُهُ، يَضْرِبُ لَهُمْ مَثَلًا أَوْ مَثَلَيْنِ عَلَى صِدْقِ وَعْدِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا بِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ وُقُوعِ الْمُصِيبَةِ بِهِمْ عِنْدَ تَرْكِ الرُّمَاةِ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى، وَذَنْبُ:
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَالله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)}.
الْجَمَاعَةِ أَوِ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ عِقَابُهُ قَاصِرًا عَلَى مَنِ اقْتَرَفَهُ بَلْ يَكُونُ عَامًّا، وَبِمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ نَصَرَهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ، وَهَذَا الرَّأْيُ يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ.
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ حِينَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا. وَالْهَمُّ: حَدِيثُ النَّفْسِ وَتَوَجُّهُهَا إِلَى الشَّيْءِ، وَالْفَشَلُ ضَعْفٌ مَعَ جُبْنٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ} وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِـ {تُبَوِّئُ} أَيْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَّخِذُ الْمُعَسْكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُنْزِلُ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَنْزِلًا فِي وَقْتٍ هَمَّتْ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ بِالْفَشَلِ افْتِتَانًا بِكَيْدِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ رَجَعُوا مِنَ الْعَسْكَرِ. وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقِصَّةِ- وَاللهُ وَلِيُهُمَّا أَيْ مُتَوَلِّي أُمُورِهِمَا لِصِدْقِ إِيمَانِهِمَا، لِذَلِكَ صَرَفَ الْفَشَلَ عَنْهُمَا وَثَبَّتَهُمَا فَلَمْ يُجِيبَا دَاعِيَ الضَّعْفِ الَّذِي أَلَمَّ بِهِمَا عِنْدَ رُجُوعِ نَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ بَلْ تَذَكَّرُوا وِلَايَةَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَوَثِقَا بِهِ وَتَوَكَّلَا عَلَيْهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمثالهُمْ، لَا عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَلَا عَلَى أَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، وَإِنَّمَا يَبْذُلُونَ حَوْلَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أُهْبَتَهُمْ وَعُدَّتَهُمْ إِقَامَةً لِسُنَنِ اللهِ تعالى فِي خَلْقِهِ إِذْ جَعَلَ الْأَسْبَابَ مُفْضِيَةً إِلَى الْمُسَبِّبَاتِ، وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُسَخِّرُ لِلسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ وَالْمُوَفِّقُ بَيْنَهُمَا، فَيَنْصُرُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ عَلَى الْكَثِيرَةِ إِنْ شَاءَ كَمَا نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ؛ وَلِذَلِكَ قال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ} وَهُوَ مَاءٌ أَوْ بِئْرٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَانَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ بَدْرٌ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَقَدْ كَانَتْ فِيهِ أَوَّلُ غَزْوَةٍ قَاتَلَ فِيهَا النَّبِيُّ الْمُشْرِكِينَ فِي 17 رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أَيْ نَصَرَكُمْ فِي حَالَةِ ذِلَّةٍ كُنْتُمْ فِيهَا عَلَى قِلَّتِكُمْ- كَمَا يُفِيدُهُ لَفْظُ أَذِلَّةٍ، إِذْ هُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ- وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَذِلَّةً أَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ إِذْ كَانُوا قَلِيلِي الْعُدَّةِ مِنَ السِّلَاحِ وَالظَّهْرِ (أي مَا يُرْكَبُ) وَالزَّادِ. وَلَا غَضَاضَةَ فِي الذُّلِّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَنْ قَهْرٍ مِنَ الْبُغَاةِ وَالظَّالِمِينَ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُؤْمِنُونَ بِمَقْهُورِينَ وَلَا مُسْتَذَلِّينَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَإِنَّمَا كَانَتْ قُوَّتُهُمْ فِي أَوَائِلِ تَكَوُّنِهَا فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فَإِنَّ التَّقْوَى هِيَ الَّتِي تُعِدُّكُمْ لِلْقِيَامِ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي يُسْدِيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بِالتَّقْوَى غَلَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فَلَا يُرْجَى لَهُ أن يكون شَاكِرًا يَصْرِفُ النِّعْمَةَ إِلَى مَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ.
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ} وَقِيلَ: أنه خَاصٌّ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا هَذَا السِّيَاقُ كَقوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} مُتَعَلِّقٌ بِـ {تُبَوِّئُ} أَوْ بِـ {سَمِيعٌ} أَوْ بَدَلٌ مِنْ {إِذْ} الأولى وَالتَّقْدِيرُ: تُبَوِّئُهُمْ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هَمَّ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِالْفَشَلِ مَعَ أَنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَدْرٍ- عَلَى قِلَّةٍ وَذِلَّةٍ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتَ تَقُولُ فِيهِ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ: إِنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَدْرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي كُنْتَ تَقُولُ فِيهِ لَهُمْ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إِلَخْ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ يُرِيدُ أَنْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ؛ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إِلَخْ. فَبَلَغَتْ كُرْزًا الْهَزِيمَةُ فَلَمْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي حُصُولِ هَذَا الْإِمْدَادِ بِالْفِعْلِ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: أنه لَمْ يَحْصُلْ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ: أنه حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْوَعْدَ بِالْإِمْدَادِ- وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِبَدْرٍ- عَامٌّ فِي كُلِّ الْحُرُوبِ، وَأَنَّهُمْ أُمِدُّوا فِي حَرْبِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَالْأَحْزَابِ، وَلَمْ يُمَدُّوا يَوْمَ أُحُدٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصْبِرُوا وَلَمْ يَتَّقُوا. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ هَذَا كَانَ مَوْعِدًا مِنَ اللهِ يَوْمَ أُحُدٍ عَرَضَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنِ اتَّقَوْا وَصَبَرُوا أَمَدَّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْمُشْرِكِينَ: أَلَيْسَ اللهُ يُمِدُّنَا كَمَا أَمَدَّنَا يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلَيْنِ} وَإِنَّمَا أَمَدَّكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ. قَالَ: فَجَاءَتِ الزِّيَادَةُ {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوَّمِينَ} الْفَوْرُ: فِي الْأَصْلِ فَوَرَانُ الْقِدْرِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ اسْتُعِيرَ الْفَوْرُ لِلسُّرْعَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْثَ فِيهَا وَلَا تَعْرِيجَ مِنْ صَاحِبِهَا عَلَى شَيْءٍ، فَمَعْنَى وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ سَاعَتِهِمْ هَذِهِ بِدُونِ إِبْطَاءٍ ومُسَوِّمِينَ مِنَ التَّسْوِيمِ، قَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ وَرَدَ سَوَّمَهُ الأمر بِمَعْنَى كَلَّفَهُ إِيَّاهُ، وَسَوَّمَ فُلَانًا: خَلَّاهُ، وَسَوَّمَهُ فِي مَالِهِ: حَكَّمَهُ وَصَرَّفَهُ، وَسَوَّمَ الْخَيْلَ: أَرْسَلَهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْوَاوِ مِنْ {مُسَوَّمِينَ} فَيَصِحُّ أن يكون الْمَعْنَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ مِنَ اللهِ تَثْبِيتَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مُحَكَّمِينَ وَمُصَرَّفِينَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ إِلْهَامِ النَّصْرِ بِتَثْبِيتِ الْقُلُوبِ وَالرَّبْطِ عَلَيْهَا. أَوْ مُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِهِ تعالى. وَأَمَّا قِرَاءَةُ كَسْرِ الْوَاوِ {مُسَوِّمِينَ} فَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ سَوَّمَ عَلَى الْقَوْمِ إِذَا أَغَارَ فَفَتَكَ بِهِمْ وَلَوْ بِالْإِعَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أنه مِنَ التَّسْوِيمِ بِمَعْنَى إِظْهَارِ سِيمَا الشَّيْءِ أَيْ عَلَامَتِهِ، أَيْ مُعَلِّمِينَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ خَيْلَهُمْ وَهُوَ كَمَا تَرَى- لَوْلَا الرِّوَايَةُ- لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُسَوِّمِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ سِيمَا تَثْبِيتِهِمْ إِيَّاهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْإِمْدَادِ مَا نَصَّهُ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ أَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ}، ثُمَّ وَعَدَهُمْ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ خَمْسَةَ آلَافٍ إِنْ صَبَرُوا لِأَعْدَائِهِمْ وَاتَّقَوْا، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِدُّوا بِالثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَلَا بِالْخَمْسَةِ الْآلَافِ وَلَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُمَدُّوا بِهِمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أن يكون اللهُ أَمَدَّهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا رَوَاهُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا أَنَّ اللهَ أَمَدَّهُمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أن يكون اللهُ لَمْ يُمِدَّهُمْ عَلَى نَحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلَا خَبَرَ عِنْدَنَا صَحَّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يُثْبِتُ أَنَّهُمْ أُمِدُّوا بِالثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَلَا بِالْخَمْسَةِ الْآلَافِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ إِلَّا بِخَبَرٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِهِ، وَلَا خَبَرَ بِهِ فَنُسَلِّمُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ قَوْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ أُمِدُّوا يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدَفِينَ} [8: 9] أَمَّا فِي أُحُدٍ فَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُمَدُّوا أَبْيَنُ مِنْهَا فِي أَنَّهُمْ أُمِدُّوا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِدُّوا لَمْ يُهْزَمُوا وَيُنَلْ مِنْهُمْ مَا نِيلَ مِنْهُمْ. اهـ.
أَقُولُ: مَا مَعْنَى هَذَا الْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إِمْدَادِ الْعَسْكَرِ بِمَا يَزِيدُ عَدَدَهُمْ أَوْ عُدَّتَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَلَوِ النَّفْسِيَّةَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهَاكَ بَيَانُهُ.
إِمْدَادٌ: مِنَ الْمَدِّ. وَالْمَدُّ فِي الْأَصْلِ: عِبَارَةٌ عَنْ بَسْطِ الشَّيْءِ كَمَدِّ الْيَدِ وَالْحَبْلِ، أَوْ عَنِ الزِّيَادَةِ فِي مَادَّتِهِ كَمَدِّ النَّهْرِ بِنَهْرٍ أَوْ سَيْلٍ آخَرَ. قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [23: 55، 56] فَالْإِمْدَادُ يَكُونُ بِالْمَالِ وَهُوَ مَا يُتَمَوَّلُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ، وَيَكُونُ بِالْأَشْخَاصِ. وَالْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ يَصِحُّ أن يكون مِنْ قَبِيلِ الْإِمْدَادِ بِالْمَالِ الَّذِي يَزِيدُ فِي قُوَّةِ الْقَوْمِ وَأن يكون مِنَ الْإِمْدَادِ بِالْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يُنْتَفَعُ بِهِمْ وَلَوْ نَفْعًا مَعْنَوِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَرْوَاحٌ تُلَابِسُ النُّفُوسَ فَتُمِدُّهَا بِالْإِلْهَامَاتِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُثَبِّتُهَا وَتُقَوِّي عَزِيمَتَهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ- عَزَّ وَجَلَّ-: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي- تعالى ذِكْرُهُ- وَمَا جَعَلَ اللهُ وَعْدَهُ إِيَّاكُمْ مَا وَعَدَكُمْ بِهِ مِنْ إِمْدَادِهِ إِيَّاكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ ذَكَرَ عَدَدَهُمْ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ يُبَشِّرُكُمْ بِهَا وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ يَقُولُ: وَكَيْ تَطْمَئِنَّ بِوَعْدِهِ الَّذِي وَعَدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ قُلُوبُكُمْ فَتَسْكُنَ إِلَيْهِ وَلَا تَجْزَعَ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّكُمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ يَعْنِي وَمَا ظَفَرُكُمْ إِنْ ظَفَّرْتُكُمْ بِعَدُوِّكَمْ إِلَّا بِعَوْنِ اللهِ لَا مِنْ قِبَلِ الْمَدَدِ الَّذِي يَأْتِيكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اهـ.
وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أن يكون التَّقْدِيرُ وَمَا جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَكُمُ الرَّسُولُ وَهُوَ {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} إِلَخْ إِلَّا بُشْرَى يَفْرَحُ بِهَا رَوْعُكُمْ وَتَنْبَسِطُ بِهَا أَسَارِيرُ وُجُوهِكُمْ وَطُمَأْنِينَةً لِقُلُوبِكُمُ الَّتِي طَرَقَهَا الْخَوْفَ مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّكُمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ. أَيْ إِنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ لَهُ هَذَا التَّأْثِيرُ فِي تَقْوِيَةِ الْقُلُوبِ وَتَثْبِيتِ النُّفُوسِ. وَإِنَّمَا أَرْجَعْنَا ضَمِيرَ {جَعَلَهُ} إِلَى قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَا إِلَى وَعْدِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ لَيْسَتَا وَعْدًا مِنَ اللهِ بِالْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا إِخْبَارٌ عَمَّا قَالَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ أَخْبَرَ تعالى فِي تَيْنَكِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ رَسُولَهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةَ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَمَنْفَعَتَهُ مَعَ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللهِ الْعَزِيزِ، أَيِ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ الْحَكِيمِ الَّذِي يُدِيرُ الأمر عَلَى خَيْرِ سَنَنٍ، وَيُقِيمُهُ بِأَحْسَنِ سُنَنٍ، فَيَهْدِي لِأَسْبَابِ النَّصْرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُ عَنْهُمَا مَنْ يَشَاءُ. فَإِنْ حَصَلَ الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ فِعْلًا فَمَا يَكُونُ إِلَّا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ سَبَبِ النَّصْرِ أَوْ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ، وَمِنْهُ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْهُ سَائِرُ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ مِنَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ وَمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَلَكَ إِلَى أُحُدٍ أَقْرَبَ الطُّرُقِ وَأَخْفَاهَا عَنِ الْعَدُوِّ، وَعَسْكَرَ فِي أَحْسَنِ مَوْضِعٍ وَهُوَ الشِّعْبُ (الْوَادِي)، وَجَعَلَ ظَهْرَ عَسْكَرِهِ إِلَى الْجَبَلِ، وَجَعَلَ الرُّمَاةَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَلَمَّا اخْتَلَّ بَعْضُ هَذِهِ التَّدْبِيرَاتِ لَمْ يَنْتَصِرُوا.